تبـادل الحـــب
مكتوب على كبدها بالنور: {حبيبي أنا لك، لا أريد بك بدلا}، فكبدها مرآته، وهي على صفاء الياقوت، وحسن المرجان، وبياض البيض المكنون، عربا أترابا، عاشقات لأزواجهن، بنات خمس وعشرين سنة، لو ضحكتْ لأضاء نور ثناياها الجنة، ولو سَمع الخلائق منطقها لافتتن كل بر وفاجر، فهي قائمة بين يديه، فساقها يضعف على قدميها بمائة ألف جزء من النور، وفخذها يضعف على ساقها بمائة ألف جزء من النور، وعجزها يضعف على فخذها بمائة ألف جزء من النور، وبطنها يضعف على عجزها بمائة ألف جزء من النور، وصدرها يضعف على بطنها بمائة ألف جزء من النور، ووجهها يضعف على نحرها بمائة ألف جزء من النور، ولو تفلتْ في بحار الدنيا لعذبتْ كلها، ولو اطلعتْ من سقف بيتها إلى الدنيا لأخفى نورها نور الشمس والقمر، عليها تاج من ياقوت أحمر، مكلل بالدر والمرجان، وعلى يمينها مائة ألف قرن من قرون شعرها.
ضفـائـر الجمــال
وتلك القرون: قرن من نور، وقرن من ياقوت، وقرن من لؤلؤ، وقرن من زبرجد، وقرن من مرجان، وقرن من در، مكلل بالزمرد الأخضر والأحمر، مفضض بألوان الجوهر، موشح بألوان الرياحين، ليس في الجنة طيب إلا وهو تحت شعرها، الواحدة تضيء مسيرة أربعين عاما، وعلى يسارها مثل ذلك، وعلى مؤخرها مائة ألف ذؤابة من ذوائب شعرها، فتلك القرون والذوائب إلى نحرها، ثم تتدلى إلى عجزتها، ثم تتدلى إلى قدميها حتى تجره بالمسك، وعن يمينها مائة ألف وصيفة، كل وصيفة آخذة بذؤابة من ذوائب شعرها.
وصائـف الـجنـــة
ومن بين يديها مائة ألف وصيفة، معهن مجامر من در، فيها بخور من غير نار، ويذهب ريحه في الجنة مسيرة مائة عام، حولها ولدان مخلدون، وشباب لا يموتون، كأنهم اللؤلؤ المنثور كثرة، فهي قائمة بين يديك يا ولي الله، ترى إعجابك وسرورك بها، وهي مسرورة عاشقة لك، فتقول لك: يا ولي الله، لتزدادن غبطة وسرورا، فتمشي بين يديك بمائة ألف لون من المشي، في كل مشية تتجلى في سبعين حلة من النور، والماشطة معها، فإذا مشت تتمايل وتنعطف، وتتكاسر وتدور، وتبتهج بذلك وتبتسم، فإذا مالت مالت القرون من الشعر معها، ومالت الذوائب معها، ومالت الوصائف معها، فإذا دارت درن معها، وإذا أقبلت أقبلن معها، خلقها الرحمن تبارك وتعالى خِلْقَةً إذا أقبلت فهي مُقبِلة، وإذا وَلَّتْ فهي مقبلة الوجه، لا تفارق وجهك، ولا تغيب عنك، وترى كل شيء منها.
وإذا جلستْ بعد مائة ألف لون من المشي، خرجتْ عجزتها من السرير، وتدلتْ قرونها وذوائبها، فتضطرب يا عبد الله، ولولا أن الله سبحانه وتعالى قضى أن لا موت فيها لَمُتَّ طربا، ولولا أن الله تبارك وتعالى قدَّرها لك، ما استطعتَ أن تنظر إليها، مخافة أن يذهب بصرك، فتقول لك: يا ولي الله، تمتَّع فلا موت فيها.
ضيافـة الله
وإذا سكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هبط ربنا الجليل جل جلاله، بلا تكييف ولا تمثيل، يتعالى ربنا عن ذلك، إلى مرج أفيح، فمُدَّ بينه وبين خلقه حجابا من لؤلؤ، وحجابا من نور، ثم وُضِعَتْ منابر النور، وسرر النور، وكراسي النور، ثم أُذِن لرجل كريم على الله عز وجل، بين يديه أمثال من النور، يسمع دوي تسبيح الملائكة معه، وصفْقَ أجنحتهم، فمَدَّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أَذِن له الله عز وجل؟ فقيل: هذا المجبول بيده، والمعلَّم الأسماء، والذي أُمرتِ الملائكة فسجدتْ له، والذي أبيحتْ له الجنة، آدم (صلى الله عليه وسلم)، أَذن له الله عز وجل. ثم أُذِن لرجل آخر على الله عز وجل، بين يديه أمثال الجبال من النور، يسمع تسبيح الملائكة معه، وصفْق أجنحتهم، فمَدَّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي أَذن له الله عز وجل؟ فقيل: هذا الذي اتخذه الله خليلا، وجعل النار عليه بردا وسلاما، إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قد أَذِن له الله عز وجل. ثم أُذِن إلى رجل آخر على الله عز وجل، بين يديه أمثال الجبال من النور، يسمع تسبيح الملائكة معه، وصفْق أجنحتهم، فمَدَّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذن له على الله عز وجل؟ فقيل: هذا الذي اصطفاه الله عز وجل برسالته، وقربه نجيا، وكلمه تكليما، موسى عليه الصلاة والسلام، قد أُذِن له على الله عز وجل. ثم أُذِن لرجل آخر، معه مثل جميع مواكب النبيين قبله، بين يديه أمثال الجبال من النور، ويسمع دوي تسبيح الملائكة، وصفْق أجنحتهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذِن له على الله عز وجل؟ فقيل: هذا أول شافع وأول مشفَّع، وسيّد ولد آدم، من تنشق عنه الأرض، وصاحب لواء الحمد؛ أحمد (صلى الله عليه وسلم)، قد أُذِن له على الله عز وجل. فجلس النبيون على منابر النور، والصديقون على سرر النور، والشهداء على كراسي النور، وجلس سائر الناس على كثبان من المسك الأبيض الأذفر.
وفـــد الله
ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، يا ملائكتي، انهضوا إلى عبادي فأطعموهم، فقَرَّبتِ الملائكة إليهم لحم طير كأنها البخت، لا ريش معها ولا عظم، فأكلوا. ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، أكلوا، اسقوهم يا ملائكتي، فنهض إليهم غلمان كأنهم اللؤلؤ المنثور، بأباريق الذهب، بأشربة مختلفة، تجد لذة آخرها كلذة أولها، (لا يصدعون عنها ولا ينزفون). ثم ناداهم الرب تبارك وتعالى من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا، فَكِّهوهم، فقُرِّبتْ إليهم أطباق مكللة بالياقوت، من الرطب الجني، الذي أسماه الله، أشد بياضا من اللبن، وأطيب من عذوبة الشهد، فطعموا وشربوا وفكهوا. ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا، اكسوهم.
كرامـة الله لعبـــــاده
فَفُتحتْ لهم أشجار الجنة بحلل مصفوفة بنور الرحمن، فأُلبسوا. ثم ناداهم الرب من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا، طيبوهم، فهاجت عليهم ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة، بأنابيب المسك الأبيض الأذفر، فنضحت على وجوههم من غير غبار ولا قتار. ثم يناديهم الرب تبارك وتعالى من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري، وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا وطيبوا، وعزتي وجلالي لأتجلين لهم حتى ينظروا إلي، فذلك منتهى العطايا، وفضل المزيد، فيتجلى الرب تبارك وتعالى، فيقول: السلام عليكم عبادي، انظروا إلي، فقد رضيت عنكم، فتداعت قصور الجنة وأشجارها واهتزت، تقول: سبحانك، أربع مرات، وخر القوم سجدا، فناداهم الرب عز وجل: ارفعوا رؤوسكم، فإنها ليست بدار عمل، ولا بدار نصب، وإنما هي دار جزاء ودار ثواب، وعزتي وجلالي، ما خلقتها إلا لأجلكم، وما من ساعة ذكرتموني فيها في دار الدنيا إلا ذكرتكم فوق عرشي.
فالمؤمنون أرواحهم في جوف طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، تَرِدُ أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، وقد وَجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم، فينادي فيهم منادٍ: أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وأن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وأن لكم أن تشبوا ولا تهرموا، وأن لكم أن تنعموا ولا تبأسوا، فذلك قوله عز وجل: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون).
ســوق الجنـــة
وأهل الجنة إذا دخلوا الجنة نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يُؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون ربهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم، وما فيهم دني، على كثبان المسك والكافور، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا، فيرون ربهم، لا يمارون في رؤيته، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة، حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم قلتَ كذا وكذا؟ فيُذَكر ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب، أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه.
فبينما نحن على ذلك، تغشانا سحابة من فوقنا، فتمطر علينا طيبا، لم نجد مثل ريحه شيئا قط، ويقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقا قد حفتْ به الملائكة، ما فيه بيع ولا شراء، إلا الصور من النساء والرجال، فإذا اشتهى أحدنا صورة دخل فيها، وفيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا.
وفيه مجمع للحور العين، يرفعن أصواتا لم نر ولم نسمع مثلها قط، يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن الناعمات فلا نبؤس، فطوبى لمن كان لنا وكنا له. وفي ذلك السوق نلقى بعضنا بعضا، فيقبل الواحد منا ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه، وما فينا دني، فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحبا وأهلا، لقد جئتَ وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه، فنقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.
تزاور أهـل الجنـــة
ونتزاور على المطايا والنجب، فنؤتى في الجنة بخيل مسرجة ملجمة، لا تروث ولا تبول، فنركبها حتى ننتهي حيث شاء الله عز وجل، فيأتينا مثل السحابة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فنقول: أمطري علينا، فما يزال المطر علينا حتى ينتهي ذلك فوق أمانينا، ثم يبعثُ الله ريحاً غير مؤذية، فتنسف كثباناً من مسك، عن أيماننا وعن شمائلنا، فنأخذ ذلك المسك في نواصي خيولنا وفي معارفها، وفي رؤوسنا، ولكل رجل منا جمة على ما اشتهت نفسه، فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمام، وفي الخيل، وفيما سوى ذلك من الثياب، ثم نُقبِل حتى ننتهي إلى ما شاء الله، فإذا المرأة تناديك: يا عبد الله، أما لك فينا حاجة؟ فتقول: ما أنتِ، ومن أنتِ؟ فتقول: أنا زوجتك، وحبك، فتقول: ما كنتُ علمتُ بمكانك، فتقول آرأه: أَوَ ما تعلم أن الله تعالى قال: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون)، فتقول: بلى وربي، فلعلك تُشغَل عنها بعد ذلك الموقف أربعين خريفاً، لا تلتفت ولا تعود، ولا يشغلك عنها إلا ما أنت فيه من النعيم والكرامة.
وإذا اشتقتَ يا عبد الله إلى أخيك المؤمن في الجنة، يسير سريرك إلى سريره، وسريره إلى سريرك، حتى تجتمعا جميعاً، فتتكئ أنت ويتكئ هو، فتقول لصاحبك: أتعلم متى غفر الله لنا؟ فيقول صاحبك: نعم، يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا.